د. طارق الطواري*
قامت الشريعة الإسلامية على التيسير ورفع الحرج والمشقة عن الناس.. ومن ذلك أن عنت بالمرضى والمعوقين فأولتهم عناية خاصة، وخففت عنهم في الأحكام الشرعية، بما يسمى بتخفيف الإبدال، فأبدلت العاجز منهم عن الطهارة بالماء بالتيمم، وأبدلت العاجز عن القيام بالصلاة بالقعود.. وما هذه الورقة إلا لبيان هذا الجانب العظيم من عناية الشريعة بالمعوقين، متناولا بذلك تعريف المعوق وصوره، ثم اليسر والمرونة في الشريعة الإسلامية من خلال الآيات والأحاديث، ثم أنواع اليسر كمقدمة ضرورية للدخول إلى التخفيف عن المكلفين، ومنه التخفيف للمرض بصوره وأنواعه، ثم أهم المسائل الشرعية المتعلقة بالمعوق.
من هو المعوق؟
يقول الدكتور/ محمد الطريقي ـ في كتابه "مراحل حاسمة":
هو: الذي يحتاج إلى الآخرين في تدبير حياته الجسدية، وهو العاجز عن توجيه نفسه في مجتمعه، وهو الذي لا يستطيع التحرك بفاعلية أمام الآخرين، ولا يستطيع القيام بعمل منتج، قياسا بمن هم في مثل عمره وجنسه وبيئته، وهو العاجز عن المشاركة في العلاقات الاجتماعية وتأمين العيش لنفسه.
من صور الإعاقة
الإعاقات البصرية: (العمى ـ العوي).
إعاقات جسمية: (شلل دماغي، الرعاش، عرج، شلل أطفال ـ المقعد / شلل اليد ـ الأقطع ـ الصرع ـ الصمم ـ الأبكم، الاضطراب في النطق، التأتأة ـ الأخرس ـ التخلف القلي ـ المعتوه ـ المجنون).
التيسير
1) التيسر: هو التسهيل وعدم المشقة على النفس أو الغير.
وأخص منه:
2) التخفيف: وهو رفع مشقة الحكم الشرعي بنسخ أو تسهيل أو إزالة بعضه، فهو إزالة ما كان فيه عسر في الأصل.
3) الترخيص: هو الإذن بعد المنع، وهو الحكم النازل باليسر بعد العسر لعذر من الأعذار.
4) التوسعة، وهي ضد الضيق، ووسع على أهله: أغناهم ورفعهم. هي أعلى من التيسير.
5) رفع الحرج: الحرج الضيق: ما فيه مشقة فوق المعتاد.
إزالة ما في التكليف من مشقة برفع لتكليف من أصله، إما بالتخفيف أو بالتخيير، كرفع الحرج في اليمين بالحنث.
ومن هنا جاءت القواعد الفقهية المشهورة:
(المشقة تجلب التيسير)، (الأمر إذا ضاق اتسع)، (الميسور لا يسقط بالمعسور).
تخفيف الإبدال كإبدال الغسل والوضوء بالتيمم وإبدال القيام بالقعود.
حكم التيسير
اليسر ورفع الحرج صفتان أساسيتان في دين الإسلام.
مقصد أساسي من مقاصد الشريعة، قال تعالى: { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج: 78 ].
قال ابن عباس: إنما ذلك سعة الإسلام، وما جعل الله فيه من التوبة والكفارات.
وقال تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [ البقرة: 185 ].
وقال تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [ النساء: 28 ].
وقال صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة" أخرجه أحمد وسنده حسن.
أي: السهلة اللينة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه" البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله شرع هذا الدين فجعله سمحا سهلا واسعا ولم يجعله ضيقا".
أنواع اليسر في الشريعة الإسلامية
ثلاثة أنواع:
النوع الأول : تيسير معرفة الشريعة والعلم بها، وسهولة إدراك معانيها وأحكامها، فحملتها الأوائل من الأميين، وممن ليس لهم علم بكتب المتقدمين ولا بعلومهم من المنطق والرياضيات والعلوم الكونية ولا من العلوم الدينية، بل كانوا على الفطرة، ورسولهم مثلهم أمي، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ}[ الجمعة: 2 ].
ورسالته خاتمة الرسالات عامة لكل من عاصره أو جاء بعده، عربهم وعجمهم بمن فيهم من قوي وضعيف وعالم وجاهل، الذكي والبليد. جاءت بأسلوب ميسور للفهم والعقل والعلم، إذ لو كان العلم بها عسيرا لكان عسيرا على جمهور المكلفين منهم مقاصد الله تعالى، ومن هذا النوع:
تيسير القرآن: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [ القمر: 54 ]. { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} [ مريم: 97 ].
أ ـ فهو ميسر تلاوة لخلوه من التعقيد اللفظي.
ب ـ ميسر للحفظ.
ج ـ سهولة الاتعاظ به؛ لشدة تأثيره في القلوب؛ لاشتماله على القصص والحكم والأمثال.
د ـ تلذذ القلب وطرب الآذان بسماعه.
تيسير الأحكام الاعتقادية:
تعريف الأمور الإلهية بما يسع فهمه، فحضت على النظر في الفلك والمخلوقات وما عسر فهمه، فأرشدك الله إلى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
التيسير في الأحكام العملية:
فقدر الشارع أمية المدعوين واختلاف أفهامهم، كتعليق أوقات الصلاة بحركة الشمس، والصوم والإفطار بالغروب وطلوع الفجر، ودخول رمضان بهلاله.
النوع الثاني : يسر الأحكام الشرعية العملية:
ـ يسر أصلي فيما شرع من الأحكام من أصله ميسرا لا عنت فيه.
ـ اليسر التخفيفي، وهو ما وضع في الأصل ميسرا، غير أنه طرأ فيه النقل بسبب ظروف استثنائية وأحوال تخص بعض المكلفين، فيخفف الشارع عنهم ذلك الحكم الأصلي.
فمن اليسر الأصلي:
إعفاء الصغير والمجنون من الأحكام التكليفية.
وإعفاء النساء من صلاة الجمعة ووجوب صلاة الجماعة.
واشترط في الزنى أربعة شهود، وللرجم الإحصان، واستثنى الولي الفقير من عدم الأكل من مال اليتيم تخفيفا عليه.
ومن اليسر التخفيفي:
السماح للولي بمخالطة مال اليتيم بعد ما كان ممنوعا: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ }، وقال تعالى: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}، { وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ} ، أي: شق عليكم بإيجاب عزل نفقة اليتيم.
ومن السنة تجنب النبي صلى الله عليه وسلم ما كان سببا في التكاليف الشاقة على المسلمين، فمن ذلك حث أصحابه على ترك السؤال حتى لا يفرض علينا، مثل الحج.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".
النوع الثالث : أمر الشريعة للمكلفين بالتيسير على أنفسهم وعلى غيرهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل بالفتوى ويأمر بذلك أصحابه.
أسباب التخفيف
أهم الأعذار التي جعلت سببا للتخفيف عن العباد:
المرض ـ السفر ـ الإكراه ـ النسيان ـ الجهل ـ العسر ـ عموم البلوى.
ويهمنا أن نتناول المرض:
المريض: من خرج بدنه عن حد الاعتدال، فيضعف عن القيام بالمطلوب.
وقد خصته الشريعة بمزيد عناية؛ لأن المرض مظنة العجز، فخفف عنه الشارع الحكيم في حال العجز عن استعمال الماء أو الوضوء أو خوفه على نفسه بزيادة المرض إن أصابه الماء، أو كان سببا في الهلاك أو تأخر الشفاء، رخص في ترك الوضوء والانتقال إلى التيمم: { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} [ النساء: 43 ].
كما خفف عن العضو المجبر في المسح على الجبيرة.
وإن عجز عن القيام للصلاة أداها قاعدا أو مضطجعا، أو مومئا، أو ما يتناسب مع عجزه الذي سببه المرض.
قال صلى الله عليه وسلم: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا … " البخاري.
وخفف عن المريض بالأذن في التخلف عن الجمعة والجماعة.
وخففت عنه بإجازة التداوي بالنجاسات، وإباحة الطبيب للعورة أو لسوأتيه.
وخفف عنه بحال الصيام بالفطر وقضاء ما فاته:
قال تعالى: { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [ البقرة: 185 ].
وخفف عن الشيخ الهرم ب إخراج الفدية بدلا من الصوم:
قال تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [ البقرة: 184 ].
وأجاز للمريض الخروج من معتكفه.
وخفف عنه بعض الأحكام المتعلقة بمناسك الحج، فأجاز له التحلل عن الإحصار مع ذبح الهدي، وأجاز له الاستنابة في رمي الجمار، وفعل المحظورات في الإحرام، من لبس قميص، كما أباح له حلق رأسه إن كان به جراحه، وعليه فدية: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [ البقرة: 196 ].
وقد جعل الله سبحانه المرض سببا في التخفيف عن المريض يوم الحساب، وذلك يكفر ذنوبه بما يصيبه في الدنيا وبما يلحقه بها من ألم أو هم أو غم، بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" البخاري.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/228):
"وهذا المعنى المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ في أحاديث كثيرة، والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يبتلون بالمصائب خاصة، وابتلوا بمصائب مشتركة، كالمصائب التي حصلت في الفتن، ولو لم يكن إلا أن كثيرا منهم قتلوا، والأحياء أصيبوا بأهليهم وأقاربهم، وهذا أصيب في ماله، وهذا أصيب بجراحته، وهذا أصيب بذهاب ولايته وعزه، إلى غير ذلك، فهذه كلها مما يكفر الله بها ذنوب المؤمنين من غير الصحابة، فكيف بالصحابة؟ وهذا مما لا بد منه".
ـ أهم مسائل المعوق وأحكام المعاق
شروط الحكم التكليفي: العلم والقدرة والإمكان، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه مثل المجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز عن الجهاد كالأعمى والمريض، ولا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائما والصوم على من يعجز عنه. وأهم المسائل:
نزع الجبيرة لا ينقض وضوءه.
صاحب القدم ال صناعي واليد والصناعية لا يلزمه المسح عليها، أما إذا بقي من الكعب أو اليد شيء وجب غسله، وإن لبس عليه خفا مسحه. الفوزان ـ المنتقى من فتاوى صالح الفوزان (5/11).
من خرجت منه النجاسة وهو لا يشعر أو لعدم القدرة على التحكم لمرض فلا بأس عليه؛ لقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }، فهذا منتهى استطاعته. ولا يتوضأ إلا عند دخول وقت الصلاة.
وللمعوق أن يعتمر بثيابه إذا اضطر لذلك، ويذبح شاة يوزعها على فقراء الحرم، أو يطعم ست مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام، قياسا على ما جاء في حلق الرأس. 1
يجوز أن يُحج عن المعاق إن كان مرضه مزمنا، بشرط أن يكون الوكيل قد حج عن نفسه.
يجوز للمرأة أن تضع حجابها بحضور الأعمى، أو أن تكشف وجهها؛ لحديث فاطمة بنت قيس، فقد قال لها النبي – صلى الله عليه وسلم -: "اعتدى في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده" متفق عليه. 2
الكفيف الذي يستطيع السفر إلى مكة مع وجود النفقة والمحرم للمرأة، فإنه يجب عليه أداء فريضة الحج بنفسه، وليس العمى بعذر، وإنما الموت أو العجز هو العذر، وأما حجة النافلة ففيها خلاف بين العلماء. 3
ويجوز تخصيص صاحب العاهة والمعوق والأعمى من الأولاد بمزيد عطية وعناية ونفقة، وهو أحد قولي العلماء، واختاره ابن قدامة في المغني. 4
والمتخلفة عقليا يجب سترها وإلباسها الحجاب: فإن تركها وسيلة إلى الفتنة بها ووقوع الفاحشة والضرر عليها، ولا حرج عليه فيما تركت بغير عمد؛ لنقص العقل. 5
وللمجنون حق في الإرث من التركة إذا وجبت له ما لم يتصف بالرق أو قتله مورثه أو اختلاف معه في الدين.
وكذلك الشيخ الكبير يصلي على حاله ويمسح بخرقة إذا تخلى، ويوضئه غيره إن أمكن، ويجمع بين الصلاتين بلا قصر.
من عجز عن القيام في الصلاة فإن الله يعطيه أجر القائم، فمن قعد لعجزه فإن الله يعطيه أجر القائم؛ لحديث "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم".
من كانت به إعاقة بالنطق، كالأثلغ الذي يجعل الراء غينا، والذي يدخل حرفا بحرف، أو من يلحن لحنا يحيل المعنى، فهو كالأمي؛ يجوز صلاته في مثله. 6
طلاق المجنون والمعتوه لا يصح: قال شيخ الإسلام:
"فأما المجنون والطفل الذي لا يميز: فأقواله كلها لغو في الشرع، لا يصح منها إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود، ولا شيء، باتفاق المسلمين. وكذا النائم إن تكلم مناما". 7
حديث "رفع القلم عن ثلاث" يدل على رفع الإثم. ومن الصور المندرجة تحته:
قتل غير المكلف كالصبي والمجنون والبهيمة جائز لدفع عدوانهم بالنص والاتفاق إلا في بعض المواضـع.
وأما فعل الفاحشة فإنه يضرب تأديبا ولا يقام عليه الحد، إما لانتفاء العلم بالحرمة، أو لالتقاء العقل بالجنون، وهذه شبهة دارئة للحد. فالعقوبة التي فيها قتل أو قطع تسقط عن غير المكلف. 8
لا يلزم المتقدم لمعاق أو معاقة الكشف الطبي للتأكد من الجينات الوراثية، والواجب إحسان الظن بالله تعالى. 9
إسقاط الجنين بعد نصيحة الأطباء لتشوهه جائز قبل نفخ الروح؛ لأنه لم يكن نفسا بعد، وسيكون عبئا على نفسه وأهله بعد، إما إذا نفخت فيه الروح فلا يجوز. 10
ولا يجوز لمن ابتلى بالإعاقة جمع المال ولا مساعدته ما دام أنه غير محتاج؛ لأنه قد اتخذ الإعاقة وسيلة للتكسب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال به المسألة حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم" الترمذي. ابن جبرين ـ الفتاوى الشرعية في المسائل الطبية (1/7).
أما مناداة الإنسان بصفة فيه كالعرج والعمى: فإن كان للتعريف فلا بأس، وإن كان للطعن والغيبة فلا يجوز، وإن كره مناداته بذلك لم تجز مناداته بها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.